الجمعة، 25 نوفمبر 2011

(( يا بوي وش معنى تفضل ؟؟ ))

(( يا بوي وش معنى تفضل ؟؟ ))


كانت تلك المحاضرة هي خاتمة المحاضرات في نهاية ذلك الفصل الدراسي ,, المحاضرة التي جعلها مدرس المادة وقت للمصارحات وللحديث بشكل عفوي وصادق عن السلبيات والايجابيات التي كنا نواجهها مع المادة التي كان يدرسنا إياها .

قررت أن أغير مسار الحديث العلمي الممل بسؤال شخصي للمدرس وبعيداُ عن أجواء الدراسة وكان سؤالي هو :
لطالما انتقدت شباب هذا البلد وأنهم غير مبالين في الحصول على العلم وانتهاز الفرص التي تسنح لهم ,, من بين جميع ما رأيته في هذا البلد الم تجد ولو ايجابية واحده في شباب هذا البلد ,, أمر ايجابي لم تجده في البلاد الأخرى ومنها في بلادك ؟؟

كان جوابه عندما قال : نعم ,, وإذا حبيت تعرف الأمر الايجابي أسمع هذا الموقف :

في بدايات العام 2000 تواجدت في جنوب المملكة العربية السعودية وتحديداُ في مدينة نجران للعمل كمدرس في أحدى المدارس المتوسطة هناك.
تأقلمت على الوضع في تلك المدينة بعد شهور وأعجبت كثيراُ بسكانها وطيبتهم وصلة الرحم بينهم .
حدث لي موقف شدني ولم أنساه حتى هذه اللحظة ,, وكانت بداية الموقف أمام منزل صديق من أهل مدينة نجران قام بدعوتنا لتناول فنجان القهوة في منزله بعد صلاة المغرب .

تواجدت في مغرب ذلك اليوم أمام منزل ذلك الصديق النجراني برفقة زميل لنا مصري يعمل مدرس رياضيات في نفس المدرسة .

بعدما طرقنا باب منزل صديقنا ,, خرج لنا طفل لم يتجاوز التسع سنوات ,, قام بالترحيب بنا والسلام علينا وكأنه يعرفنا منذ سنين ,, ثم طلب منا الدخول إلى المنزل رغم أنه لا يعرفنا ونحن لا نعرف من يكون .
رفضنا الدخول أنا وصديقي خشية أن يكون ذلك المنزل ليس منزل صديقنا النجراني وقد نكون أخطاءنا في العنوان .
ولكن بعد سؤالنا لذلك الطفل عن إذا ما كان صاحب هذا المنزل هو محمد بن صالح ,, أجابنا بأن محمد بن صالح والده ,, ثم قام بسحبي بكل ما يستطيعه من قوه إلى داخل المنزل حتى وصلنا معه إلى مجلس الرجال .
بعدها بلحظات أتى صديقنا محمد صاحب المنزل ورحب بنا كثيراُ .
أخبرناه بأنا تفاجئنا من أسلوب أبنه في الترحيب في الضيوف وبأننا بتنا نشك بأنه (قزم) وعمره يتجاوز العشر سنوات .

ضحك صاحبنا كثيراُ بسبب الشكوك التي راودتنا ,, ثم أخبرنا بأن أبنه صالح لم يتجاوز السبع سنوات .

ما هي إلا لحظات حتى عاد إلينا ذلك الطفل وبرفقته (القهوة والشاي وصحن التمر) ولم يكتفي بالترحيب بنا ثم أعاد الترحيب بنا وقال لنا بالحرف (( والله أنها أبرك الساعات اللي شرفتوا فيها منزلنا ))
وضع صالح التمر أمامنا ثم بدا يصب لنا القهوة ,, وفي تلك الأثناء قام والده محمد بتعريفنا له ,, وأخبره بأننا زملاءه في المدرسة .
كان رد أبنه : ((والله والنعم فيهم))

مر الوقت بسرعة ونحن نتجاذب أطراف الحديث مع صالح أبن صديقنا ,, وكأننا جئنا لزيارة الابن وليس لزيارة الأب الذي أهملناه وكان دوره في ذلك الوقت هو توزيع الابتسامات فقط .

توقفنا عن الحديث بعد ارتفاع أذان صلاة العشاء ,, قررنا حينها الاستئذان من زميلنا محمد لأننا نود المغادرة لأداء الصلاة ومن ثم العودة إلى الشقة التي نقطن فيها .

كان الرد من الطفل صالح وليس والده عندما قال (( والله ما تروحون إلا بعد ما تتعشون ,, أنا قلت لأمي تسوي عشاء ,, والحين العشاء على النار ))
كنا نتبسم ونضحك وكلنا أمل أننا سوف ننتصر في النهاية على ذلك الطفل الصغير ,, ولكن هيهات ,, لأن ذلك الطفل أنتصر علينا عندما قال لنا (( أنا حلفت أنكم تتعشون عندنا ,, هذي أول مره تجون فيها بيتنا وما يصير تمشون بدون عشاء ,, أنتوا ما ترضون لو جيناكم أنا وأبوي لبيتكم ومشينا وقت العشاء ولا تعشينا عندكم صح والا لا ؟؟))

بعد ذلك الإحراج من الطفل لم يكن بوسعنا سوى الموافقة على تناول العشاء لديهم في المنزل .
أدينا صلاة العشاء ,, وبعد الصلاة عدنا لمنزل صديقنا ,, وعدنا للحديث مع زميلنا محمد .

بعد دقائق تواجد أبنه صالح مرة أخرى معنا في المجلس ,, ثم قاطع أباه قائلاُ :
(( أسمح لي يا يبه بقول أبيات شعر ترحيب في أصدقائك ))

سمح له والده بأن يقول الأبيات ,, وأثناء إلقاءه لتلك الأبيات تذكرت أمر ما ودمعت عيني ومسحت تلك الدمعة ,, ورآني صديقي محمد وأنا متأثر من تلك الذكرى .

بعد انتهاء صالح من إلقاء القصيدة ,, قمنا بالتصفيق له والثناء عليه ,, ثم أخبرنا صالح بأنه يكتب القصائد ويحفظ بعض الأشعار لجده وخواله ,, وأراد أن يسمعنا قصيدة كتبها هو بنفسه ولكن قاطعه والده عندما قال لي :
سلامات يا بسام كأني شفتك تأثرت مع قصيدة الترحيب ,, عسى ما شر .
كان جوابي : لا ما فيه إلا كل خير ,, بس تذكرت شيء قديم .
ثم طلب مني أبو صالح أن أخبره بذلك الشيء إذا أمكن ,, تمنعت عن لأجابه في البداية ,, ولكن بعد إصرار زميلنا المصري ,, أخبرتهم عن ذلك الأمر الذي تذكرته ,, وقلت لهم :

عندما كنت صغيراُ بسن أبنك صالح الله يحفظه لك ,, كان والدي يعاملني بقسوة ,, وكان يقوم بضربي بشكل مؤلم أنا وأشقائي وشقيقاتي عندما نرتكب أي شيء خاطئ .
وكان أيضاُ يقوم في بعض الأوقات بضرب والدتنا أمامنا ,, وكذلك أهانتها ,, وتسميتها ببعض الألقاب السيئة ,, ونفس الأمر بالنسبة لي أنا وبقية الأشقاء ,, كان يطلق على كل شخص فينا لقب سيء للغاية ,, حتى بتنا معروفين بتلك الألقاب السيئة .
ولم يكتفي عند ذلك ,, بل كان يوبخ والدتي عندما تقوم بتدليعنا والتحدث معنا بلطف ويخبرها بأن دلالها لنا سوف يكون سبب في ضياعنا .
ولم يتوقف عند ذلك الحد ,, بل سلب شخصياتنا عندما كان يرفض خروجنا للعب مع أبناء الحي ,, وكان يرفض اختلاطنا مع أبن عمومتنا وأقاربنا ,, وكان يرفض تواجدنا في مجلس الرجال عندما يزوره أصدقاءه ,, حتى أنني بلغت العشرين دون أن أعرف ولو ثلاثة من أصدقاءه .

منازل قليله كنا نزورها ,, منزل جدي لأبي ,, منزل جدتي لأمي ,, منزل أحد أصدقاءه المقربين له .

في أحد الأيام طرق باب منزلنا شخص غريب ,, فتحت له الباب وقلت له نعم ؟؟ أبتسم في محياي ثم سألني عن أسمي ,, وبعد ما عرفته بنفسي سلم علي بحرارة ,, ثم قال بأنه خالي ابراهيم الذي كنا نسمع به ولم نراه ,, وذلك لأنه كان يتواجد في بلد خليجي للعمل فيه .
أندهش خالي من طريقة استقبالي له ,, لأنني لم أقل له حتى كلمة (( تفضل ))
لم أقلها بسبب عدم رغبتي في استضافته في منزلنا ,, ولكني لم أقل تلك الكلمة لأنه لم يسبق لي أن استخدمت تلك الكلمة من قبل ,, على الرغم من أنني كنت أبلغ السابعة عشر حينها .

لو تجولت في عقلية وفؤاد أشقائي وشقيقاتي سوف تجد أشياء مشتركه كثيرة (( خوف من الآخرين ,, حذر ,, حقد ,, كراهية ,, أنانية ))

ولو تمعنت ودرست شخصياتهم لن تجد شخصية من الأساس  .

أكبر شقيقاتي لم يدم زواجها أكثر من نصف عام لأن زوجها لم يعد يستطيع أن يتحمل زوجه (( ليست اجتماعيه ))
ومازلت أذكر كلام والدته لوالدتي بأن أبنها قرر الانفصال بعدما حاول وحاول وحاول تعديل تلك العقلية الانطوائية والخائفة لشقيقتي ولكنها لم يستطع ,, وبات يخشى أن تنجب له أطفال قد يكونوا نسخاُ منها مستقبلاُ .

كذلك الحال لشقيقاتي العوانس ,, يرفضن الزواج والخروج من منزل العائلة خوفاُ من المجهول الذي أوجده والدي في عقولهن .

شقيقي الذي يصغرني في السن فضل الخروج من البلد والعمل في احدى دول الخليج هروباُ من والدي ومن تعامله السيئ معنا ,, وعاد لنا بعد مده شخصية قويه ,, ونفسيه أكثر ارتياحا .

وهكذا فعلت أنا عندما أتيت لهذه البلاد .

هنا انتهى الموقف في نجران ,, وعاد الحديث في الدمام ,, وقال المدرس للطلاب ولي تحديداُ :
يا عقيل أتوقع أنك عرفت الشيء الايجابي في بلدكم ,, الشيء الايجابي هو أن جميع شباب هذا البلد لديه شخصيه تخصه لوحده وليس تابع لأحد ,, الجميع هنا يستطيع الترحيب بك وإكرامك أن تواجدت في منزله .

ابتسمت بعد حديث المدرس لنا ,, ولو أنني تأثرت بداخلي لرؤية الدمع يتواجد في عين ذلك المدرس أثناء حديثه .
شكرت المدرس على جوابه وعلى ما قاله ,, وكان في فمي ماء منعني من قول ما في جعبتي لذلك المدرس .

الكلام الذي لم استطع قوله للمدرس في ذلك الوقت ,, سوف أقوله لكم الآن :
ذلك المدرس أخطاء عندما قال بأن جميع شباب السعودية يستطيعون تحمل المسؤولية ولديهم شخصيه تخصهم ,, ويستطيعون الترحيب بالضيوف وإكرام ضيوفهم .

فتشوا حولكم أعزائي القراء عن أشخاص انطوائيين وسوف تجدون أكثر من شخص .
أقول هذا وأنا لا أنسى عندما ذهبت لمنزل صديق لي وخرج لي شقيقه الذي يدرس في الجامعة (( بسروال وفانيله )) مع العلم بأنه يعلم بأنني قادم إلى منزلهم لإعطائه شيء يخص شقيقه ,, خرج علي ذلك الشاب بذلك المنظر ,, وقام بالسلام علي بكل برود مع أنني لم أراه منذ سنوات ,, ولم أسمع منه إلا (( أنا بخير ,, تمام)) في الوقت الذي من المفترض أن أسمع فيه كلمات (( الله حيه ,, تفضل ,, كيف الحال )) يقول أي شيء باستثناء كلمات الصمت والارتباك المتواجدة على محياه .

ولا أنسى أيضاُ عندما زرت صديقي المتزوج وتواجدت في منزله لأكثر من ساعتين ثم قال لي (( أعذرني يا عقيل ودي أضيفك ,, ولكن ما أقدر لأن المدام رافضه تسوي شاي وقهوة بعد الساعة 8 ))
أنا ما ألوم زوجتك يا صديقي ,, ولكن ألومك يا صاحب ,, لأنني أخذت موقف سلبي منك وليس من زوجتك ,, وكرهت التواجد في منزلك بعد تلك الكلمات ,, لأنني أخشى أن يصيبني من برودك وقلة السنع لديك ما يجعلني مثلك مستقبلاُ .

في النهاية هذه رسالتين مني :
1 -
ليس الكرم والترحيب في الضيوف وإحسان استضافتهم هياط ,, وليس الإسراف في الفعل أو المبالغة كرم وإنما هو هياط . <<< ركزوا وأفهموا المعنى جيداُ 

2-
لنحرص على إعطاء أبنائنا كامل الثقة منذ الصغر ,, ونعطيهم المجال ليتعرفوا على الأمور ,, ولا يجب أن ننفرهم من الآخرين وخصوصاُ أقربائهم لأسباب ليس لهم علاقة فيها ,, لنمسك العصا من المنتصف ,, لأن الشد والضغط بقوه على عصا التربية ينتج (( شخص انطوائي )) والتساهل والإهمال والدلع ينتج (( شخص مدلل وغير مبالي ))



موعدنا الجمعة القادمة بأذن الله مع موضوع وقصة جديده
أستودعكم الله
وكل عام وأنتم الى الرحمن أقرب
 

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

(( دمعة الذكرى )) رافعيات الجمعة 3

(( دمعة الذكرى ))
رافعيات الجمعة 3




بعيداُ قليلاُ عن منزلهم الطيني ,, في الخلاء ,, وأمام أبريق الشاي الذي كان يغلي على نيران الحطب ,, كانت هنالك جلسة يوميه تحدث في نهاية كل مساء ,, تجمع تلك الجلسة بين الأشقاء الثلاثة (( كافي ,, وافي ,, شافي ))

كان الأشقاء الثلاثة متقاربين في العمر والأفكار والشجاعة وفي كل شيء تقريباُ ,, وكانوا يقضون سهرتهم الليلية في نفس ذلك المكان القابع بين مزرعتهم وبين منزلهم الطيني,, وكانت أحاديثهم في الغالب تكون تارة عن التجارة ,, وتارة عن الزراعة ,, وفي مرات كثيرة كانوا يتحدثون عن الزواج وعن أمنيتهم في إنهاء وتوديع حياة العزوبية .

كانت تلك الليلة تبدو حاسمة بالنسبة لهم ,, وذلك بعد هذا الحديث الذي دار بينهم :
كافي : يا أخواني خلاص ملينا من الحديث في موضوع الزواج ,, كل يوم نعيد نفس الموال ,, ودايم ننهي كلامنا أن حالتنا المادية ضعيفة وعشان كذا أبونا ما يقدر يزوج ولو حتى واحد مننا ,, أنا لقيت الحل وأن شاء الله يعجبكم .
وافي : ايش هو الحل اللي عندك يا كافي ؟؟
كافي : أبونا بكرة مسوي عشاء لخالي اللي وصل اليوم من الشمال ,, وبكره بعد ما يتعشوا الرجال في بيتنا ,, نبي نروح عند أبونا ونحب راسه كلنا ,, ونطلب منه قدام رجال الجماعة والقرية أنه يزوجنا ,, وأن شاء الله أنه يوافق ,, وأتوقع أنه صعب يرفض طلبنا .
شافي : طيب يا كافي حنا راح نخلي أبونا كذا في موقف محرج قدام العشيرة ؟
كافي : أنت عندك حل أفضل من هذا يا شافي ؟؟ أكيد ما عندك حل ,, عشان كذا أنتوا ما عليكم إلا بكره تمشوا وراي وتحبوا راس أبوي وتجلسوا قباله ,, وأتركوا الباقي علي .
وافي : خلاص يا كافي شورك وهداية الله .

في مساء اليوم التالي ,, وبعد تناول ضيوف أبو كافي لوجبة العشاء ,, تفاجأ جميع الحضور بوقوف كافي وأشقائه وذهابهم إلى والدهم وتقبيل رأسه والجلوس أمامه .
كافي : يا بوي جايينك بطلب وأتمنى أنك ما تردني أنا وأخواني .
خلف (والدهم) : آمر يا ولدي ,, عسى خير ؟؟
كافي : أن شاء الله خير يا يبه ,, الموضوع وما فيه أني أنا وأخواني نبي نتزوج ,, وما نقدر نصبر أكثر من كذا ,, وكل ما فتحنا معك موضوع الزواج أنت ترفض وتقول أن الزواج يبي تكاليف ومصاريف ,, حنا قادرين نجمع المهر خلال شهور أنا وأخواني ,, وبالنسبة للسكن كل واحد فينا له غرفه في بيتنا وتكفيه يعيش فيها مع زوجته ,, وفي المستقبل بأذن الله راح نبني كل واحد بيت لحاله ,, تكفى يا يبه لا تردنا .
خلف : الله يهديك يا ولدي كافي ,, جاي تتكلم في هذا الموضوع قدام رجال العشيرة وأحرجتني الله يصلحك ,, خلاص أوعدك أني راح أعجل بأمور زواجكم .
كافي : متى يعني يا يبه ؟؟
خلف : بأذن الله السنة الجايه .
وافي : اوووف بعد سنه ؟؟ والله كثيرة يا يبه .

هنا تدخل أحد الضيوف وقال :
سليمان : الله يهديك يابو كافي ,, ليه تحرم عيالك المعروفين في القرية بالشجاعة والطيب والكرم من الزواج؟؟ إذا كان عشان المهر ,, أنا مستعد أزوج بنتي نوره لكافي بدون مهر ,, وزواجه عليها بعد يومين لو بغيت .
وتدخل ضيف آخر وقال :
جميل : وأنا أتفق مع أخوي سليمان ,, وأنا بالنسبة لي يعجبني وافي ولا قصوراٌ بأخوانه وقررت أعطي بنتي منى للذيب وافي .

هنا بانت السعادة على محيا كافي وشقيقه وافي ,, بينما حدث العكس على محيا أصغرهم شافي .

ما هي إلا دقائق حتى تحدث أحد الضيوف وقال :
محمد : و بنتي زينب المزيونه ما تليق إلا للقناص شافي ,, ويشرفني ويسعدني أن شافي يكون زوج بنتي الوحيدة زينب .

بانت السعادة بشكل أكبر على محيا والدهم الذي قال :
خلف : بيض الله وجيهكم يا عزوتي وما قصرتوا ,, وأنا أشهد أنكم ناس يعتز الواحد أنه يناسبكم ويفخر أنكم جماعته وعزوته .

لم يغادر جميع الضيوف لمنازلهم إلا بعد أن تم الاتفاق والترتيب لأمور زواج الأشقاء الثلاثة بالكامل ,, وتم تحديد موعد زواج الأشقاء الثلاثة بعد أسبوع من ذلك النقاش الذي دار في منزل أبو كافي .

بعد أسبوع تم الزواج بحمدلله وفضله .
كان الأشقاء الثلاثة ووالدهم في غاية السعادة ,, وكان الجميع يمني النفس لو كانت أم كافي (رحمها الله) ما زالت على قيد الحياة لتفرح بتلك الليلة التي ودع فيها أبناءها الثلاثة حياة العزوبية .

على النقيض تماماُ كانت الغضب والقهر والحنق يجمع أبناء عمومة الزوجات الثلاثة (( نورة , منى , زينب )) لأن كل شخص منهم كان يخطط للاقتران بابنة عمه ,, وهم الأحق بالزواج منهم على حسب ما كانت تنص عليه العادات والتقاليد آنذاك ,, ناهيكم أنه كانت هنالك مشاعر حب وأعجاب من الشباب الثلاثة لبنات أعمامهم ,, وهذا ما زاد الأمر بغضاُ و سوء .
جمع الحقد ووحد بين قلوب الشباب الثلاثة ,, الذين قرروا أن ينتقموا من كافي وأشقائه .

بعد مضي أكثر من أسبوع على الزواج ,, قرر الأشقاء الثلاثة أن يعودوا للعمل في مزرعة والدهم ,, لأن العمل في تلك المزرعة هو مصدر الدخل الوحيد لهم .

في ذلك الصباح الدموي قام أبناء عمومة الزوجات الثلاث بتسديد أكبر عملية غدر وحقد عرفتها القرية الصغيرة .
وذلك بعد أن قاموا بقتل أصدقائهم (( كافي , وافي , شافي ) بالأسلحة النارية ,, وكان كل شخص منهم يقوم بإطلاق النار على الشخص الذي تزوج ابنة عمه ,, أي بمعنى أوضح بأن الشاب الذي قام بقتل كافي هو أبن عم نوره زوجة كافي ,, والذي قام بقتل وافي هو أبن عم منى ,, والذي قتل شافي هو أبن عم زينب .

فر الشباب الثلاثة من القرية بعد فعلتهم الشنيعه بالأشقاء ,, وكان فرارهم بمثابة الهجرة النهائية للقرية ,, لأنهم يعلمون بأنهم سوف يفقدون حياتهم في حال تم القبض عليهم .

جن جنون أبو كافي في ذلك الصباح بعد مشاهدته لجثث أبنائه أمامه في المزرعة ,, وبالطبع سوف يعذر الجميع أبو كافي لو قضى شهوراُ وهو يبكي على فلذات كبده وآخر من بقي لديه في هذه الحياة .

بعد ما حدث بأيام قليلة ,, قرر أبو كافي مغادرة القرية ,, لأنه لم يعد يستطيع العيش في ذلك المكان الذي يتذكر أبناءه الثلاثه في كل شبراُ فيه .

طلب منه أقرباءه ورجال القرية أن يلتزم الحكمة والصبر ,, ووعدوه بأنهم سوف يتكفلون بتزويجه ,, وبأذن الله سوف يعوضه الله بأبناء آخرين ,, يحملون أسمه على مدار السنوات القادمة .

رفض أبو كافي جميع تلك التوسلات والعروض ,, وقرر الرحيل ,, وفعلاُ تم ذلك .

كان أبو كافي بمثابة الطير الرحال ,, يسافر من بلد لبلد ,, وكان يمضي في كل بلد يصله سنتين أو ثلاث ويغادره إلى بلد آخر .

الترحال ,, التنقل ,, معرفة مناطق جديدة ,, معرفة أشخاص جدد ,, جميعها لم تجعل أبو كافي ينسى ما حدث لأبنائه ولو لساعة .


قضى أبو كافي ثمانية سنوات وهو يتنقل بين المناطق ,, ولم يمل ولم يكل من ذلك ,, رغم أنه الأحصنة التي كان يتنقل بها لم تستطع الصمود معه أكثر من سنتين .

بعد مضي السنة التاسعة ,, حل أبو كافي ضيفاُ على رجلاُ يعيش في الصحراء ,, ونام ليليتين في خيمة ذلك الرجل البدوي .

في صباح اليوم الثالث كان أبو كافي يتجاذب أطراف الحديث مع ذلك الرجل البدوي الذي استضافه في اليومين السابقين وكان ذلك الشخص يدعى ب ( أبو عمير ) .
قطع حديثهم عمير صاحب السنوات السبعة الذي جاء يركض من خارج الخيمة حاملاُ سيفه الصغير ويقول لأبيه (( يبه يبه شوفني وأنا أبارز بالسيف ,, اليوم تعلمت من راعي حلالنا كيف أحمي نفسي من ضرب السيوف ))
ثم أخذ يلوح بسيفه وكأنه فعلاُ يتعرض لمحاولة هجوم من شخص آخر وهو يدافع عن نفسه بذلك السيف .

كان والده سعيد جداُ وهو يرى أبنه يتلاعب أمامه با0لسيف وكان يردد كل حين (( عاش ولدي النشمي )) ويضحك بعد ترديده لتلك الجملة .
ثم التفت أبو عمير إلى محيا أبو كافي ليرى ردة فعله بالذي يقوم به عمير أمامهم ,, وتفاجأ بأن أبو كافي كان يبتسم والدمعة موجوده على محياه .


كان أبو كافي شارد الذهن وهو ينظر إلى تلاعب عمير بالسيف امامه ,, وبعد أن أفاق من شرود ذهنه ,, رأى أبو عمير وهو ينظر إليه وعلامات الاندهاش والتعجب لا تفارقه ,, قام بعدها بمسح الدمعة التي نزلت من محجر عينه ,, حتى لا يقوم أبو عمير عن سؤاله عن سبب تلك الدمعة .

وللأسف تم ذلك ,, بعد أن طلب أبو عمير من أبنه مغادرة المكان والذهاب إلى (الشق) وهو المكان الذي توجد به أم عمير .

بعد مغادرة عمير لمجلس والده ,, دار هذا الحديث بين أبو عمير وأبو كافي :
أبو عمير : عسى ما شر يابو كافي ؟؟ أشوف دمعتك نزلت قبل شوي على وجهك .
خلف : لا ما فيه إلا كل خير ,, بس أنا عيني تدمع بعض الأحيان لحالها .
أبو عمير : لا يا ضيف الرحمن ,, الدمعة اللي نزلت وراها قصة مدفونة ,, ولازم تعلمني هالقصة .
خلف : لا وراها قصة ولا شيء ,, أنا قلت لك أن عيني فيها مشكله وتدمع بعض الأحيان لحالها .
أبو عمير : يا ضيف الرحمن أنا أعرف الدمعة اللي تنزل من مشكلة بالعين ,, واعرف الدمعة اللي تنزل من قهر أو من ندم ,, وأنت كان ذهنك شارد لما كنت تشوف ولدي عمير وهو يلعب بالسيف ,, ودمعتك نزلت بعد ما جاء عمير ولعب بالسيف .

حاول أبو كافي الإنكار ولكنه لم يستطع الصمود كثيراُ ثم قال :
خلف : بقولك قصتي يابو عمير مع أني وعدت نفسي من تسع سنوات أني ما أقول قصتي لأي شخص ,, وأنت أول شخص راح يعرف بقصتي .
ثم قام بسرد القصة التي حدثت لأبنائه ,, ثم أختتم كلامه قائلاُ (( دمعتي نزلت لأني يوم شفت عمير يلعب بالسيف تذكرت عيالي لما كانوا صغار ويتبارزون قدامي بالسيوف ))
أبو عمير : اجل هذي قصتك يا ضيف الرحمن ,, أجل أسمع قصتي وأحكم بعدها بنفسك على اللي راح أقوله لك :
أنا يابو كافي كان عندي أربع عيال أعمارهم وقتها بين الخمسطعش والعشرين .
كان أثنين منهم متخصصين يروحون يرعون حلالنا ,, وواحد منهم كان يروح يجيب الماء من الغدير ,, وواحد منهم كان يجيب لنا الحطب ويسوي القهوة ويساعدني أنا وأمه إذا احتجنا شيء .
كنت أعيش في منطقه لحالي أنا وعيالي وزوجتي بس ,, لأن صارت لي مشكله مع جماعتي وقررت أني أتركهم وأرحل بعيد عنهم .
في أحد الأيام ما رجع ولدي اللي يجيب الماء من الغدير ,, وحل الظلام والولد ما رجع ,, خفت أنا وأمه عليه ,, وأرسلنا أخوه اللي كان عندنا يجمع الحطب يروح يشوف ليه أخوه تأخر وما رجع من الصباح .
مرت فترة والولد الثاني ما رجع ,, قررت أرسل واحد من اللي يرعون حلالنا يروح يشوف وش صار بإخوانه ,, ولكنه نفس الشيء راح وما رجع.
قال ولدي الأخير أنا بروح أشوف ليه أخواني تأخروا وبأذن الله ما أطول عليكم ,, راح وما رجع هو بعد .
سحبت سلاحي ورحت أشوف وش صار على عيالي ,, قالت أمهم أنها بتروح معاي ولكن أنا رفضت ,, و لكنها ألزمت وأصرت يا نروح مع بعض أو نجلس مع بعض ,, وماكان بيدي الا أني أوافق ,, وأخذتها معي .
رحنا ندور عليهم والدنيا ظلام ولا نشوف شيء ,, ولما نزلت من التل اللي كان قريب من الغدير ,, سمعت صوت صراخ أم عيالي وراي فوق التل ,, رجعت ولقيت واحد غريب ماسكها و يطعنها بسيف .
تبارزت أنا وياه وكان قوي بالحيل ونشيط ,, وبعد فترة تمكنت منه وقدرت أقتله ,, بعد ما قتلته رحت لأم عيالي ولقيتها ماتت ,, ولما نزلت من التل ناوي أروح للغدير وأشوف وش صار على عيالي الاربعه ,, سمعت صوت حرمه تناديني ,, وكانت وقتها نازله من فوق التل ,,
وقالت لي : أنت أبو العيال الأربعة اللي راحوا للغدير ؟؟
قلت لها أيوه أنا أبوهم .
قالت: عيالك كلهم ذبحهم الخسيس اللي أنت بارزته وذبحته ,, وأنا كنت أشوفك من بعيد وأنت تبارزه ,, الخسيس هذا قطاع طرق ,, وقدر قبل كم يوم يذبح أهلي كلهم ,, إلا أنا ما ضرني ,, أخذني معاه بالغصب ,, وصار لي معاه أسبوع ,, وقال لي أمس أنه يراقب تحركات ناس عندهم أربع عيال وعندهم حلال كثير ,, وخبرني أنه راح يذبحهم كلهم عشان نعيش أنا وياه في مكانهم ونأخذ كل حلالهم .

تمنيت يابو كافي أن ذيك البنت كانت تكذب علي ,, ولكنها للأسف كانت صادقه ,, وكانت عارفه الأماكن اللي فيها جثث عيالي .
مرت علي ايام مثل أيامك يابو كافي وأقسى ,, لأني كنت كل يوم أحفر أنا والبنت قبر وندفن فيه واحد من العيال ونصلي عليه ,, وآخر يوم دفنت أمهم ألإنسانه اللي قليل تلقى مثلها بين الحريم .

بعد ما خلصنا من دفن الجثث ,, قالت لي البنت أن مالها أحد في هالدنيا غير الله ,, وشاورتني لو أتزوجها وأستر عليها وتعيش عندي لو بس تخدمني ,, أهم شيء تحس أن فيه رجال يحميها .
وفعلاُ تزوجتها ونقلت حلالي وبيت الشعر للديره هذي لأن فيها لي فيها ربع و عزوة ,, والحمدلله ربي رزقني بعمير وأخته فاطمه اللي عمرها أربع سنين .


بعد ما لاحظ أبو عمير التأثر يتضح على محيا أبو كافي ,, حاول استغلال ذلك التأثر وأكمل كلامه قائلاٌ : صدقني يابو كافي مهما رحت ومهما جيت ما راح تلقى مثل عزوتك وربعك ,, حتى لو كنت ظلموك ,, راح يجي اليوم اللي يعرفون فيه أنهم ظلموك ,, وبعدين يا بو كافي ربعك مالهم أي علاقة باللي صار من الشباب الطايش اللي قتلوا عيالك ,, وقرروا أنهم يساعدونك ويزوجونك مثل ما تقول ,, خصوصاُ أنك الولد الوحيد لأبوك وأمك ,, يعني لو ما حاولت تتزوج من جديد راح ينقطع نسل عائلتكم ,, أرجع يابو كافي لربعك وعزوتك ,, وتزوج دامك للحين ما تعديت حاجز الخمسين سنه .

كانت قصة أبو عمير مؤثرة بشكل قوي للغاية على فؤاد أبو كافي ,, وكانت تلك القصة سبب في عودة أبو كافي أدارجة بحثأ عن القرية التي يوجد فيها منزله ,, وتوجد فيها عزوته .

بعد أيام وليال وشهور من السفر على الحصان ,, وصل أبو كافي أخيراُ إلى القرية التي كان يقطن فيها .

كان الحنين والشوق إلى القرية ليس أقوى من قدرة أبو كافي على حبس دموعه لكي لا تنزل بعد سنوات الفراق .

بعد وصوله إلى منزله ,, أخرج أبو كافي مفتاح القفل الذي أغلق فيه باب منزله ,, ذلك القفل الذي ما زال يحتفظ فيه أبو كافي ,, ولكن للأسف لم يتجاوب ذلك المفتاح مع ذلك القفل الموجود على باب المنزل ,, وكأنه تم تغيير القفل الذي وضعه على الباب قبل رحيله .

أثناء محاولته كسر ذلك القفل ,, سمع أبو كافي نداء أصوات أطفال قادمين من مزرعته ,, المزرعة التي على ما يبدو بأن هنالك من يهتم ويعمل فيها .
بعد وصول الأطفال الثلاثة إلى أبو كافي دار هذا النقاش :
أحد الأطفال : يا عم ليه تبي تكسر قفل باب بيتنا .
خلف : بيتكم ؟؟ ليه هذا بيت مين ؟؟
الطفل : هذا بيت جدنا ؟؟
خلف : جدكم ؟؟ علمني مين هو جدكم ؟؟
الطفل : جدنا أسمه خلف ,, وأنا أبن أبنه كافي ,, وسموني خلف على أسم جدي ,, وذولا اللي معي عيال عمامي ,, هذا محمد وافي وهذا صايل شافي .


الزبدة :
1- الشخص بدون عزوته لا يساوي شيء .
2- don't give up بالعربي ((لا تستسلم))

تقييمك للمدونة ؟؟